مجدي خليل:- سمعنا عن العديد من الشخصيات القبطية،سواء كانوا رجال دين أم شخصيات عادية، وسواء كان ذلك داخل مصر أو في المهجر، تم استقطابهم للعمل مع أجهزة الأمن والمخابرات المصرية لنقل كل ما يحدث داخل المجتمع القبطي والكنائس القبطية إلي هذه الأجهزة بالإضافة إلي مهام أخري عديدة... وهذا أمر طبيعي ولا غرابة فيه في دولة توصف بأنها أمنية بوليسية مخابراتية ثيوقراطية عسكرية مستبدة. ولكنني لم أسمع طوال حياتي عن الحالة العكسية، أي تجنيد شخصية قبطية للتجسس علي مؤسسات الدولة المصرية لصالح الكنيسة ولصالح البابا شنودة كما في حالتنا هذه، وخاصة إذا كان هذا التجسس المزعوم علي وزارة سيادية مثل وزارة الخارجية ويقوم به شخص علي درجة نائب سفير كما في هذه الحالة التي سوف أتناول تفاصيلها.
وزارة الخارجية ذاتها لا تختلف عن المؤسسات الأخري في مصر، فهي مسرح للمحسوبية والنفوذ وسيطرة أهل الثقة وتوريث المناصب والفساد والتعصب الديني المقيت، فهي جزء من دولة تصنف بأنها من أعلي دول العالم في معدل الفساد والتمييز الديني، والفساد وسوء استخدام الموارد مش بس للركب في المحليات فقط كما قال السيد زكريا عزمي وإنما في جميع مؤسسات الدولة المصرية وحتي المؤسسات الدينية ذاتها، ووزارة الخارجية تتميز عن المحليات بأن الفساد بها بملايين الدولارات وليس بآلاف الجنيهات كما يحدث في المحليات، كما أن الفضائح الجنسية بها تزكم الأنوف، ومراقبة أبناء الجاليات لصالح أجهزة الأمن بديلا عن تدعيم وتقوية العلاقات مع الدول المضيفة هو سمة من سمات العمل الدبلوماسي في الخارج،والعمل كمرافق ومرشد للتسوق للمسئولين وذويهم القادمين من مصر يتصدر مهام الدبلوماسي المصري خاصة في الدول الغربية، وقد تناولت العديد من الصحف المصرية بعض أوجه هذا الفساد، ووصل الاستهتار لحد تصنيف بعثة مصر في نيويورك بأنها من أسوأ البعثات الدبلوماسية في مدينة نيويورك فيما يتعلق بالمخالفات والمشاكل المرورية وفقًا لتقرير بلدية نيويورك...أما عن التعصب ضد الأقباط في هذه الوزارة فحدث ولا حرج، وهو سمة عامة في جميع مؤسسات الدولة لدرجة أن تقرير منظمة العمل الدولية لعام 2007 قد وصفه بأنه «من أكثر أشكال التمييز صلافة ذلك الذي يستهدف الأقباط في مصر».
بدون مبالغة فإن حكاية السفير الدكتور دوس سوريال عدلي دوس، سليل عائلة دوس الشهيرة بأسيوط، هي أكبر فضيحة طائفية في تاريخ وزارة الخارجية كله وأكثر قضايا الاضطهاد الديني فجاجة في تاريخ الدبلوماسية المصرية، وقد قمت بالاطلاع علي أكثر من 300 صفحة من الوثائق أمدني بها محاميه وأتحدي أن يناظرني أي شخص حول هذه القضية الفضيحة، أو يشكك في كلمة مما جاء في هذا التقرير.
تبدأ حكاية الدكتور دوس عقب تخرجه في جامعة عين شمس بتفوق وعمله كمعيد وحصوله علي الماجستير في الاقتصاد بمرتبة الشرف من جامعة عين شمس،ولأنه يتحدث خمس لغات ويجيد تمامًا الإنجليزية والفرنسية وبالطبع العربية فقد تقدم للعمل كدبلوماسي بوزارة الخارجية والتحق بها بالفعل عام 1987، وفي عام 1988 حصل علي المركز الأول في مسابقة عقدتها السفارة السويسرية بالقاهرة، وحصل بناء علي ذلك علي منحة لدراسة الماجستير في الدبلوماسية الدولية متعددة الأطراف، وحصل علي الدرجة بتفوق عام 1990، وقد أهله ذلك للعمل في البعثة الدائمة لمصر في مقر الأمم المتحدة بجنيف حتي عام 1996، في خلال وجوده في جنيف حصل علي الدكتوراه في العلاقات الاقتصادية الدولية مع مرتبة الشرف من المعهد العالي للدراسات الدولية بجنيف وعلي نفقته الخاصة.
في عام 1996 طلبته المنظمة العالمية للملكية الفكريةWIPO ، وهي إحدي وكالات الأمم المتحدة المتخصصة، للعمل كخبير بها، وقد وافقت الخارجية المصرية علي ذلك.. واستمر بالعمل بها حتي عام 2003. عاد بعدها للعمل في إدارة التعاون الدولي من أجل التنمية بوزارة الخارجية حتي ديسمبر 2004، تم نقله بعد ذلك إلي سفارة مصر بسريلانكا علي درجة مستشار وهي الدرجة التي حصل عليها عام 2002، ثم في أغسطس عام 2006 تم نقله كنائب للسفير المصري في نيقوسيا بقبرص السفير محمد عبد الحكم.
تبدأ قصة دوس الحقيقية ،أو بمعني أوضح متاعبه الحقيقية في سفارة مصر بقبرص، حيث اتضح أنه تم نقله من سيرلانكا لوجود فضائح مشينة بسفارتنا هناك اختلط فيها الجنس بتجارة السلاح بالفساد والإهمال وضياع الشفرة الدبوماسية، وقد كتبت صحيفة الفجر عن هذه الفضائح عام 2006، أما لماذا تم نقله إلي قبرص تحديدا فذلك لوجود خلافات كانت ملتهبة بين الأقباط من ناحية وبين السفير محمد عبد الحكم ومدير مكتب المخابرات هناك عمرو حسين من ناحية أخري، وكان نقل قبطي لقبرص كنوع من تخفيف هذا التوتر الشديد في علاقة الكنيسة القبطية بسفارة في الخارج.
كانت المفاجأة الصاعقة بعد وصول الدكتور دوس بشهرين فقط إلي قبرص،حيث أرسل الوزير أحمد أبوالغيط السفير أحمد راغب، معاون وزير الخارجية في ذلك الوقت، للتحقيق معه في شكوي قدمها ضده السفير محمد عبد الحكم، وكانت الاتهامات الأربعة المذهلة وغير المسبوقة في تاريخ الدبلوماسية المصرية كالآتي:
> تسريب أسرار السفارة إلي الكنيسة القبطية في نيقوسيا.
> تسريب الأسرار إلي الأقباط في قبرص.
> وجود علاقات بينه وبين البابا شنودة وكبار رجال الكنيسة.
> الكنيسة تنهي له جميع أعماله وتقوم بمساعدته في كل شيء بما يؤيد فكرة هذا التعاون.
تلخيص هذه الاتهامات المشينة أن الكنيسة وعلي رأسها البابا شنودة تتجسس علي الدولة المصرية ومؤسساتها السيادية،وأن هناك طابورًا خامسًا قبطيًا يفشي أسرار الدولة للكنيسة!!!
قام السفير المحترم أحمد راغب بالتحقيق مع السيد دوس في جميع هذه الاتهامات، وقابل كاهن الكنيسة والكثير من أبناء الجالية القبطية هناك، وتبين له أن هذه الاتهامات ملفقة ومغرضة ومعيبة، والأخطر أنها تهدد الوحدة الوطنية. وكانت نتيجة التحقيق هي الحفظ وعدم توقيع أي عقوبة. وبعد عام تم استدعاء السفير محمد عبد الحكم للقاهرة وإرسال السفير أحمد راغب ليحل محله ( هو نفس السفير الذي حقق مع دوس، وهو أيضًا سفيرنا في قبرص حتي كتابة هذه السطور)، بل إن السفير الجديد أحمد راغب أرسل خطابًا ممتازًا للخارجية المصرية بعد وصوله بثلاثة أشهر امتدح فيه وطنية الدكتور دوس ونزاهته وشرفه وكفاءته، وفي نهاية السنة أرسل تقريره السنوي عنه بتقدير ممتاز مكررًا الإشادة بنزاهته وكفاءته وبأنه شخصية مشرفة للدبلوماسية المصرية كما أن زوجته، كما جاء في خطابه: سيدة محترمة ومشرفة وعضو بارز في مجتمع زوجات الدبلوماسيين التي ترأسها حرم السيد الرئيس.
ما المشكلة إذن؟.
كان من المتصور أن هذا الكلام المنصف ،وهذا التقرير الممتاز، وبقاء دوس في منصبه في السفارة بقبرص وعدم الاستجابة لطلب السفير عبد الحكم بنقله إلي الديوان العام بالقاهرة، يعني تراجع الخارجية عن الاتهامات الحمقاء التي وجهتها له بالتجسس لصالح الكنيسة القبطية، ولكن هذا ويا للأسف لم يحدث!!!
في يناير 2008 تم تخطي الدكتور دوس في الترقية إلي درجة وزير مفوض، وفي يناير 2009 تم تخطيه مرة أخري في الترقية، وتكرر الكلام نفسه في يناير 2010... مع كم هائل من المضايقات الصبيانية وتصرفات الحواري معه بعد رجوعه إلي ديوان عام الوزارة بالقاهرة بعد انتهاء مدته بقبرص.
لم تترك الوزارة له طريقًا سوي مجلس الدولة للتظلم من هذا الاضطهاد، فقام برفع دعوي قضائية رقم 38635 لسنة 62 ق أمام محكمة القضاء الإداري، وقد جاء تقرير مفوض الدولة الذي كتبه السيد نبيل صلاح السماك في أغسطس 2009 ناصًا علي قبول الدعوي شكلاً ومضمونًا وترقيته حيث إن وزارة الخارجية لم تقدم سوي كلام مرسل واتهامات غير مثبتة، ولم تقدم أي وقائع محددة تنال من كفاية المدعي وصلاحيته للترقية، وحيث إنها أقوال مرسلة ولم يثبت في حقه علي وجه القطع واليقين الاتهامات الموجهة إليه. ولكن المفاجأة جاءت في حكم المحكمة الصادر بتاريخ 22 نوفمبر 2009 الذي جاء ضاربًا عرض الحائط بكل المستندات وبتقرير مفوض الدولة وجاء في نص الحكم: إن المدعي يقوم بتهريب الأسرار للكنيسة وللبابا شنودة وكبار رجال الدين وللجالية القبطية. وكانت هذه هي الفضيحة الكبري.. من أين جاء القاضي بهذا الكلام؟ وما المستندات التي اعتمد عليها حتي يخرج نص الحكم بهذه التهمة الحمقاء؟. فما كان من محامي المدعي السيد أحمد فؤاد إبراهيم، وهو سفير سابق بالخارجية أيضا - سوي مقابلة رئيس مجلس الدولة وإخباره بأن هذا الحكم شاذ ويدمر الوحدة الوطنية علاوة علي عدم وجود أي سند يؤيده. فماذا حدث؟. تم التحفظ علي الحكم فورًا لمدة شهر، وأعيد مرة أخري لكن بتهمة جديدة وهي كما جاء بنص الحكم «إن المدعي لا يمكن الثقة فيه ولا يؤتمن علي قيامه بمهام أعمال سكرتير الرمز والأمن الاحتياطي بالسفارة، حيث يقوم بتهريب المعلومات الخاصة بعمل السفارة لأعضاء الجالية وللقبارصة».... هذه تهمة أخطر، معناها التجسس لصالح دولة أجنبية وأيضا لصالح أعضاء الجالية المصرية كلهم في قبرص وليس البابا شنودة والأقباط فقط،أي جملة من الاتهامات بالعمالة والخيانة!!! يا للهول كما قال وبحق يوسف باشا وهبي!!!.... وهي تهم كما هو واضح لا تستدعي حرمان المدعي من الترقية فحسب بل تستوجب إعدامه أو الحكم عليه بالمؤبد من جراء هذا العمل الشنيع الذي اتهمته به المحكمة!!!... من أين جاءت المحكمة بهذا الكلام وهذه الافتراءات المختلقة؟ الإجابة لا نعرف!
وإذا كان المتهم بهذا السوء فعلاً، فلماذا تأتمنه الدولة في منصبه الحالي علي أهم ملف للأمن القومي وهو ملف مياه النيل؟، حيث يشغل حاليًا الرجل الثاني في مكتب نائب مساعد وزير الخارجية لشئون مياه النيل، فكيف لا يؤتمن علي الشفرة السرية وهو مسئول عن ملف مفاوضات مياه النيل؟، وكيف لشخص بهذا السوء يحصل علي 18 تقرير ممتاز خلال مدة عمله وتقرير واحد بدرجة كفء؟ ويحصل علي 12 تقريرًا ممتازًا خلال مدة عمله في المنظمة العالمية للملكية الفكرية؟، وكيف يتجرأ القاضي علي مثل هذه التهمة والمدعي لم توقع عليه أي عقوبة أو جزاء طوال مدة خدمته كلها والممتدة منذ عام 1987؟ وكيف يستند القاضي إلي ما جاء في مذكرة السفير محمد عبد الحكم، والتي سبق التحقيق فيها وتبرئة المدعي مما جاء بها من اتهامات كيدية مغرضة؟
علي العموم حكم المحكمة وتقرير مفوض مجلس الدولة والعديد من الوثائق التي أودعها الشاكي موجودة في ملف القضية بمجلس الدولة ويمكن لأي صحفي الاطلاع عليها.
في محاولة لفك لغز هذه القضية لم يكن أمامي وأنا اقرأ ملفات هذه القضية سوي الاتصال بكبار الشخصيات القبطية في قبرص لمعرفة خفايا هذه القضية، وقد علمت منهم أن المستشار دوس ليس له أي دخل في خلاف السفير عبد الحكم مع الجالية القبطية بقبرص،وإنه جاء علي هذه الخلافات، وقد استقبله السفير أسوأ استقبال لدرجة إرسال السائق جورج حبشي بسيارة نصف نقل لإحضاره من المطار، نائب سفير يستقبل في سيارة نصف نقل! كما أنه لم يعهد إليه بأي مسئولية حتي ينقل أسرارها إلي الكنيسة،وعلاوة علي ذلك أن المستشار دوس نفسه لا يحضر أصلا للكنيسة للصلاة حتي يحتك بأحد، ودوره فقط هو توصيل زوجته إلي باب الكنيسة بدون الدخول إلي داخل الكنيسة كما قال لي الكاهن زكريا الأنبا بولا. وقد علمت أن السيد الوزير عمر سليمان قد تصرف بمسئولية رجل الدولة وقام بسحب السيد عمرو إسماعيل وأغلق مكتب الجهاز بالسفارة ،كما قامت الخارجية باستبدال السفير عبد الحكم بشخصية متميزة وهو السفير أحمد راغب... وقد عادت علاقة الكنيسة والجالية القبطية بالسفارة إلي وضعها الطبيعي كعلاقة يسودها الود والمحبة،بل قامت الكنيسة وأبناء الجالية القبطية بقبرص بنشر إعلان شكر بجريدة الأهرام شكروا فيه السفير أحمد راغب علي روحه السمحة الطيبة، وشكروا معه جميع السفراء السابقين في قبرص واستثنوا فقط من الشكر السفير محمد عبد الحكم.... وهي رسالة لها معناها ومغزاها. يبقي من ذيول الموضوع مشكلة المستشار دوس عدلي دوس، وعلي وزارة الخارجية المسارعة بغلق هذا الملف الشائك وترقية السيد دوس وإعادة مستحقاته بأثر رجعي قبل أن يتطور الموضوع وتصل الفضيحة إلي المجتمع الدولي... فالتشكيك في وطنية الأقباط علاوة علي حماقته ومخالفته لتاريخهم الوطني المشرف، هو المسمار الأخير في نعش العلاقة المتوترة بين المسلمين والأقباط، كما أنه يشكل أكبر خطر علي الأمن القومي المصري وعلي الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي، فقد يتحمل ويصبر القبطي علي التمييز والاضطهاد الواقع عليه ولكنه يرفض وبإصرار أن يمس أحد وطنيته وإخلاصه لبلده.
Post a Comment